محمد القرآن أم محمد السنة ؟

وصلني مقال -لم يُذكر اسم كاتبه-، يتحدّث صاحبه عمّا يصفه بـ شخصيتين متناقضتين للنبي صلى الله عليه وسلم، شخصية يتحدّث عنها القرآنُ الكريم، وأخرى تحكي عنها كتبُ الأحاديث النبوية!


كمقدمة .. لا بدّ من الاعتراف أن فئةً من الباحثين -والذين عُرفوا بعد ذلك بالمستشرقين-، دأبوا -ومن قديم الزمان- على اختلاق الشبهات حول الإسلام عموما، وحول النبي صلى الله عليه وسلم وكتب الحديث النبوي على وجه الخصوص


من وقت لآخر يتبرّع بعض المفكّرين بإعادة تدوير تلك الشبهات على أنها تأملات فردية أو بحوث شخصية، وترويجها بلغة مَن يريد تنزيه الإسلام بنقد الموروث المشوّه –حسب رؤيته-


ولأن مناقشة هذا النوع من الكتابات ليس من أهدافي، فلن أكتب بلُغة الردود العلمية أو البحوث الموسوعية، بل سأكتب إشارات سريعة، لأكشف للقارئ الكريم حقيقة الشبهات وأمثالها، وأنها: (قديمة)، و (منقولة)، و (في غاية الركاكة)


بداية التعليق على الشبهات:


أولا:

محمد الذي نهاه الله عن الاعتداء (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا)، لا يتعارض مع محمد الذي قال: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله" ..


فخطاب الرسول وإن كان بلفظ (الناس)، إلا أن المقصود به (فئة) من الناس، وهم من قاتلوه وبادروه العِدَاء


سِرّ ذلك يمكن في أنّ (أل) في كلمة (الناس) هي للعهد وليست للاستغراق، وفَهمُه يعتمد على التفريق بين (أل الاستغراقية) و (أل العهديّة)


فكلمة (معلّم) في سؤال الأب لابنه: هل جاء المعلّم؟ تختلف عن كلمة (معلم) في خطاب أحد مسؤولي التعليم: لا بدّ مِن تكريم المعلّم


بحيث إنّ (أل) في كلام المسؤول للاستغراق، فتعمّ أو (تستغرق) كل المعلمين، ويكون المعنى: لا بدّ من تكريم كل المعلمين، أما (أل) في سؤال الأب فهي للعَهْد، فيراد بها معنى (معهود) في الذهن، وهو أحد الأفراد، ويكون المعنى: هل جاء ذاك المعلّم؟


فالشبهة إذًا قامت على الجهل بمعاني (أل التعريف) في لغة العرب


لك أن تترك جميع التفسيرات -بما في ذلك تفسيري السابق- لتأخذ توضيح الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، فلم يقاتل (كل الناس)، بل قاتل (فئة من الناس)، بينما الأكثر من الناس: صالحهم، وعاهدهم، واتفق معهم، وسكت عنهم، ولم يتعرض لهم ..


ثانيا:

محمد الذي أخبر الله أنه لا يعلم الغيب (وما أدري ما يُفعل بي ولا بكم)، لا يتعارض مع محمد الذي بشّر أقواما بالجنة وآخرين بالنار ..


لأن شهادته لأحد بجنة أو نار لا تعني علمه الغيبَ، ولا تحكّمه في البشر، لكنّ الله تعالى أطلعه على شيء (يسير) من الغيب، فأخبرنا به لحكمة أرادها الله، كـ: تثبيت أو تقوية المسلمين على سبيل المثال لا الحصر


وللمرة الثانية أقول: دع كلامي السابق، وخذ الخبر المؤكد من القرآن الكريم، الذي أكّد -وفي آيات كثيرة- اختصاصَ ربنا جل وعلا بعلم الغيب


ومع ذلك تجد فيه -وتحديدا في سورة الجن- قول الله: (عالم الغيب فلا يُظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول)، وهذا يعني أن الله (قد) يُطلع أحد أنبيائه عليهم السلام على (شيء) من الغيب كحالةٍ خاصة في مناسبة خاصة لحكمة خاصة


فالشبهة إذًا قامت على الجهل بمسألة واضحة نصّ عليها القرآن الكريم


وبالمناسبة فالفئة التي شهد لها رسولُ الله بالجنة أو النار، -سواء من الصحابة أو من الأعداء-: (قليلة جدا) أمام السواد الأعظم من البشر الذين لم يخبر الرسول عن مصيرهم ولم يشهد لهم أو عليهم


ثالثا:

محمد الذي أنزل الله عليه: (لا إكراه في الدين)، لا يتعارض مع محمد الذي قال عن المرتدّ: "من بدّل دينه فاقتلوه" ..


لأن الإكراه الذي تحدّثت عنه الآية هو: (إجبار) غير المسلم على الإسلام، أما (معاقبة) المسلم التارك لدينه، فهذا الإجراء يسمى عقوبة ولا يسمى إكراها


فالشبهة إذًا قامت على عدم التفريق بين المعاقبة والإكراه


ويلاحظ هنا قلّة -بل ندرة- الحالات التي عُوقبت بحدّ الردة، مما يؤكد أن (القتل) ليس الهدف الأساسي من تلك العقوبة، بل الهدف: التحذير الشديد من الردة، وبيان عواقبها قبل الوقوع فيها


وهذا لا يمنع مقاضاة مَن وقعت منه الردة، بالرغم من كثرة القيود المفروضة على هذه العقوبة، والتي بسببها لا نكاد نذكر في التاريخ من عوقب بها


رابعا:

محمد الذي أمره القرآن بالصفح (فاصفح الصفح الجميل)، لا يتعارض مع محمد الذي تذكر بعض المصادر أنه انتقم من امرأة كانت تهجوه بالقتل وبصورة وحشية -كما يقول صاحب ذاك المقال- ..


لأن القصة -وبكل بساطة- لا صحة لها، بل هي رواية ضعيفة لا تثبت، فالشبهة إذًا قامت على الاعتراف بنص غير ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم


خامسا:

محمد الذي لا يُفرّق بين الأنبياء (لا نُفرّق بين أحد من رسله)، لا يتعارض مع محمد الذي قال: "أنا سيّد ولد آدم ولا فخر" ..


لأن القرآن نفسه يشهد بتفاوت الأنبياء في الأفضليّة (تلك الرسل فضّلنا بعضهم على بعض) وفي آية أخرى (ولقد فضّلنا بعض النبيين على بعض)


إنّ الاعتراف بوجود الأفضلية ليس إشكالا، الإشكالُ الحقيقي يكمن في استخدام التفضيل لأجل القدح في نبيّ، أو التقليل منه، وهذا ما رفضه الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: "لا تُفضّلوني على يونس بن متّى"


فالشبهة إذًا قامت على عدم التفريق بين الاعتراف بالتفاضل وبين استخدامه في القدح


سادسا:

محمد الذي أنزل الله عليه الإحسان للأسرى (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا)، لا يتعارض مع محمد الذي أَمر بقتل الأسرى من بني قريظة ..


فتلك الفئة -من سكان المدينة- خانت العهد، وشاركت بعمليات عسكرية ضد أهل المدينة، ولصالح الأحزاب التي قاتلت الرسولَ وأصحابه


هذا العمل -في عرف الدول- يُعدّ من (الخيانة العظمى)، والتي تصل عقوبتها للإعدام، وفي أشد حالات الرفق والرحمة: السجن المؤبّد


ذاك الحكمُ الشرعي من جهة، والسياسي العسكري من جهة أخرى، بُني على أساس: المعاقبة على الجريمة، ولم يقم على مبدأ: قتل من لم يكن مسلما! 


فالشبهة إذًا قامت على عدم التفريق بين التصفية الدينية ومعاقبة المجرم


سابعا:

محمد الصادق الأمين الصوّام القوّام، لا يتعارض مع محمد الذي يعاشر النساء ويتزوج فتاة صغيرة ..


لأنه -في الحقيقة- لم يخالف الدينَ الذي يبيح الزواج، ولا طبيعة مجتمعه العربي في التبكير بتزويج البنات، ولا عادات الرؤساء في جعل تأليف القلوب وتقوية العلاقات أحد أهداف الزواج ومقاصد القرابة


فالشبهة إذًا قامت على الجهل بطبيعة مجتمع الرسول وعادات العرب من جهة، والجهل بسياسات القادة والرؤساء من جهة أخرى


ثامنا:

محمد الذي قال الله عنه: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، لا يتعارض مع محمد الذي قال يوما لأعدائه: "جئتكم بالذبح" ..


لم يقل هذا الحديث تأسيسا لفكرة العنف كما يفهم بعض المفكّرين، بل وكما يفهم بعض المتطرفين أيضا! بل قاله تعليقا على محاولة (اغتيال) فاشلة نجى منها يوم كان بمكة


علما أنه كان يخاطب نفرا قليلا (قيل: ثلاثة) -وهم الذين تآمروا على قتله-، حتى قام أحدهم بخنقه، قبل أن يتدخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه في اللحظات الأخيرة ويخلصه من ذلك الموقف


وللعلم فرسولُ الرحمة، وبعد هذا الحديث بسنوات، -وتحديدا حين فتح اللهُ له مكة-: أصدر العفو العام عن أهل مكة، في الموقف الشهير الذي يعرفه الأعداء قبل الأصدقاء


فلم يَذبح، ولم يقتل، بل ولم ينفّذ ذلك التهديد! اللهم إلا في واحد من أولئك الثلاثة، الذين قُتل اثنان منهم أثناء معركة بدر


.. بينما أَمر النبي بقتل ثالثهم -وهو عقبة بن أبي معيط-، الذي تَذكر كتب السيرة أنه من قام بخنق رسول الله، وتوعّد صاحبه ورفيق دربه (أميةَ بن خلف) بقوله: لا أرضى عنك حتى تأتي محمدا فتبصق في وجهه وتشتمه وتُكذّبه. حتى أنزل الله فيه: (ويوم يَعضّ الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا * يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانا خليلا)


إنّ عفوَ الرسول عن كثير ممن خالفه ورفَض دينه يؤكّد أن مقولة "الذبح" تلك لم تكن موجهة لهم باعتبارهم (غير مسلمين)، بل كانت موجهة لأولئك النفر الثلاثة باعتبارهم (معتدين مجرمين)


فالشبهة إذًا قامت على عدم التفريق بين معاقبة المجرم ومعاملة غير المسلم


ولك أن تتخيل ردّ رسولَ الله على اعتداء قومه ورشْقِهم إياه بالحجارة بقوله: أرجو أن يُخرج الله مِن أصلابهم مَن يعبُد الله


تاسعا:

محمد الذي أُنزلت عليه (من قبل أن يأتي يوم لا بيعٌ فيه ولا خُلّة ولا شفاعة)، لا يتعارض مع محمد الذي جاءت الأحاديث بإثبات شفاعته لأمّته يوم القيامة ..


ذلك أن الآية تتحدث عن قوم لم يؤمنوا، وهذه الفئة -تحديدا- لا تنفعها شفاعة أحد، وإلا لكانت الجنة قائمة على الوساطات لا على الإيمان!


ولتأكيد هذه الحقيقة اقرأ قول الله تعالى (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) وقوله (لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى)


سِرّ المسألة: أن شفاعات الآخرة ليست كلها مرفوضة، بل المرفوض منها ما اختل فيه شروط قبول الشفاعة، ومن أهمها: أن يرضى اللهُ تعالى


وبناءًا على ما سبق: فالمؤمن قد ينتفع بالشفاعة يوم القيامة، بخلاف غير المؤمنين الذين قال الله فيهم: (فما تنفعهم شفاعة الشافعين)


فالشبهة إذًا قامت على عدم التفريق بين الشفاعة المقبولة والشفاعة المرفوضة


ختاما .. إذا عجز الأعداءُ الأشدّاءُ الفُصحاءُ البُلغاءُ -الذين رأوا رسول الله وعاصروه- عن الاعتراض عليه والقدح فيه، فغيرُهم أشدّ عجزًا وأضعف حجة .. فاحفظ هذه الحقيقة وتذكرها دائما


قال صلى الله عليه وسلم: "مَن قال رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا: وجبتْ له الجنة" رواه أبو داود في سننه


اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا

مِن أوعية العلم .. زيارة للشيخ عبدالله العبيلان

يسّر الله لي زيارةَ مدينة (حائل)، والتقاءَ العالِم الفذّ فضيلة الشيخ/ (عبدالله بن صالح العبيلان) حفظه الله، ومَن يعرف فضيلته يعلم أن مجالسه عامرة بنور الوحي، ويعرف أنه ذو شخصية مُشعّة، قلّما يرجع الطالب من عنده إلا وقد اقتبس منه شُعبة، ناهيك عن الغيرة على الدين، وتعظيم السنة، ومفاصلة أهل الأهواء، لا سيما وقد جمع مع هذا كله: حكمةً، وهيبةً، وفصاحةً، لا تملك وأنت تخرج من عنده إلا أن تقول: (ما أجمل العلم إذا جُمِعَ في وعاء كهذا)، ويعلم الله أنني رجعتُ من عند فضيلته بهمّة عالية وروح متوقّدة وحظّ وافر من ميراث الأنبياء

لم أرد التعريف بفضيلته بقدر ما أردت تقييد المشاهدات والفوائد التي خرجتُ بها من هذه الزيارة

فمن مشاهداتي:

المشاهدة الأولى: ثبات الشيخ في الوقت الذي تقلب فيه كثير من الدعاة وطلبة العلم، ومما ينبغي أن يتنبّه له أن المتقلّب يُختبر ولا يُؤمن جانبه حتى تحسن توبته من البدعة ويُعلم شفاؤه من الداء الذي فيه، وهذا ما فعله عمر رضي الله عنه مع (صبيغ بن عسل) لما نفاه وكتب لأهل البصرة ألا يُجالسه أحد، بل هو ما دلّ عليه قول ربنا (إلا الذين تابوا وأصلحوا وبيّنوا)

المشاهدة الثانية: من أسرار ثبات الشيخ تمكنه من العلم قبل أن يظهر للناس، والتزامه الدعاء وسؤال الثبات، وتقليله من شأن نفسه؛ حتى لقد قلتُ له: (مَن يعرفك يعلم أنك لم تتقلّب كما تقلّب كثير من الدعاة وطلبة العلم)، فبادرني قائلاً: (.. لأنني أنقل؛ ولا أقول شيئاً من عند نفسي)! فعجبتُ له؛ كيف نسبَ الثبات للعلم الذي يحمله لا لذاته، وهذا ملحظ دقيق

المشاهدة الثالثة: إدمانه النظر في كتب الحديث، والقراءةُ في كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم كمجالسته؛ لا يشتاق لها إلا من قوي حبه وتعظيمه للنبي صلى الله عليه وسلم (أهلُ الحديثِ همُ صحْبُ النبيّ وإنْ .. لم يَصْحبوا نفسَه أنفاسَه صَحِبوا)

المشاهدة الرابعة: علو قدر الشيخ وعدم تأثّر مكانته بالرغم من محاربة الخصوم له وتعرّضه للافتراء والأذى، وصدق الله (إن الله يدافع عن الذين آمنوا)

المشاهدة الخامسة: تأثيره على طلابه وعدم تأثّره بهم كما هو حال بعض العلماء والدعاة الذين تغيّرت مناهجهم بسبب بعض طلابهم، وعلامة ذلك (غالباً) أن الطالب؛ إما أن يتأثر بشيخه أو يهجره

المشاهدة السادسة: حرصه - مع الرد على المخالفين - على بثّ العلم ومدارسته وتقرير مسائله، بل يراه العلم الحقيقي ويرى أن الانشغال بالردّ على أصحاب الفكر أمر عارض بحسب الحاجة

المشاهدة السابعة: كثيراً ما يوصي بالنقل عن ابن تيمية، لا سيما والشيخُ من أكثر الناس اطلاعاً على كتب ابن تيمية واستحضاراً لأقواله واختياراته، ومن الأمور الطريفة أنني سألته (كم مرة قرأتَ مجموع فتاوى ابن تيمية؟) فأجاب إجابة عامة ليس فيها ثناء على نفسه، فقلتُ ممازِحاً: (أما أنا فأقدّر أنك قرأتَها ما لا يقل عن سبع مرات) فتبسّم، ثم قلت له: (إن فلانا [رجل عليه مؤاخذات] يزعم أنه قرأها ثلاث مرات، ولعله يا شيخُ قرأَ مجموعاً آخر) فضحك وقال: العبرة بالقلب الذي يعي ما يقرأ

المشاهدة الثامنة: استقباله لطلاب العلم من داخل وخارج المملكة، حتى يُخيّل إليك أن الرحلة في طلب العلم لم تنقطع بموت المتقدمين من أئمة الحديث، يعقد لهم الدروس ويشرح لهم ما يسّر الله دراسته من الكتب، ثم ينصرفون لأهلهم بعلم غزير وسمْت لا يكاد يكون له نظير، ومما يُشار إليه أن الفضل في فكرة الدورات العلمية يرجع بعد الله للشيخ، فهو أول من بدأها في السعودية، حتى لقد قلتُ له: (أنت أول من ابتكر فكرة الدورات العلمية في العالم العربي!) فقال: (بل في السعودية، أما خارجها فلا أعلم)

المشاهدة التاسعة: زهد الشيخ وبعده عن الدنيا وانقطاعه عنها، فقد اختار لنفسه مزرعة متواضعة ومسكناً متواضعاً في قرية صغيرة تبعد عن حائل قرابة عشر كيلو مترات

المشاهدة العاشرة: كثرة الافتراءاتْ التي قيلت في حقّ الشيخ، ومع هذا لا يتأثر ولا يتذمر، بل: وكأنه لا يسمع! وحقّ للشيخ ألاّ يعبأ بهم؛ فالبعضُ يفرح إذا استطاع صرفَ أهل الحق عن العلم والتعليم

المشاهدة الحادية عشرة: تمثّله بالنصوص الشرعية عند ردّ الافتراء عن نفسه، وهذا ملحظ دقيق؛ حيث إن المرء يجد من نفسه نشاطاً في الدفاع عن الذات أكثر من نشاطه في تقرير العلم، وقد أخبرني الأخ أبو فيصل أن الشيخ لم يزد في التعليق على فرية قيلت فيه بأكثر من ثلاث كلمات، هي قول الله تعالى (ستُكتب شهادتهم ويُسألون)

المشاهدة الثانية عشرة: مما آلمني زهد الكثيرين في العلم، فأصبح الانشغال عن العلم هو الغالب على طلبة العلم بعد أن كانوا ينشغلون به، فمتى يعي طلاب العلم أن في طلب العلم؛ السعادة والنجاة في الدينا والفوز والفلاح في الآخرة؟

المشاهدة الثالثة عشرة: التوازن والاعتدال عند الشيخ سمةٌ ظاهرة، فمع حُرقته على السنة وحزْمه مع مخالفيها، ومع حبه لأئمة الهدى من الصحابة والتابعين والأئمة الأعلام؛ إلا أنك لا تسمع له كلمة تصبّ في جانب الغلوّ، وهذا من أندر ما يكون، بل لا يوفّق له إلا من كان الله معه، فالشيخ معتدل في نقده وتحذيره؛ فلا تجد عنده عبارات التهويل، كما أنه معتدل مُقلّ في ثنائه وتزكيته؛ فلا يرفع أحداً فوق منزلته مهما حمل له في قلبه من الحب والتعظيم، وحريّ بمن كان متزناً أن يكون راسخاً

المشاهدة الرابعة عشرة: ممّا يَتّفق عليه طلاب العلم أن قوة التأصيل وعمق الفهم من أبرز ما يميز الشيخَ، هذا الأمر يدركه مَن جالسه أو أنصت لدروسه، ومنذ أكثر من عشرين سنة؛ وففي الوقت الذي يتخبّط فيه بعضُ الناس؛ ظهر الشيخ بتأصيلات فريدة وقواعد عميقة ونقولات نفيسة عن أئمة السنة، وما لبث الشيخُ حتى أصبح المنكرون بالأمس موافقين مسلّمين مذعنين للحق الذي أجراه الله على لسانه

وبعدُ .. فهذه بعض الفوائد والعبارات النفيسة التي سمعتها من فضيلته في تلك الزيارة، وما كان فيها من قصور فهو إلى فهمي وذاكرتي أقرب: 

الفائدة الأولى: إذا رأيتَ الرجل يستخفّ بالدم؛ فاعلم أنه لا عقل له

الفائدة الثانية: لا يصح الاستدلال بقتال الصحابة فيما بينهم؛ لأن القتالَ لم يكن للدنيا، ولم يَحمده أحد منهم، ثم العبرة ليست بالخطأ بل بما في الكتاب والسنة

الفائدة الثالثة: من يَستدلّ بأخطاء بعض الصحابة؛ ففِعْله كفعل النصارى؛ حيث عبدوا عيسى، وهو ينهاهم عن عبادته

الفائدة الرابعة: الحزبيون لا ينظرون إلى الآخرة

الفائدة الخامسة: المفاهيم التي تعلّمناها من رسول الله؛ بدّلها الحركيّون

الفائدة السادسة: الحركيون؛ علمانيون بثياب إسلامية

الفائدة السابعة: الحركيون أخطر من حاكِم يُصرّح بعلمانيّته؛ لأنه واضح ولا ينسب أقواله للدين

الفائدة الثامنة: الديمقراطية تُحقّق بعضَ حقوق الإنسان وتُحارب حقوق الرحمن

الفائدة التاسعة: للشيخ في كتابه (إكرام الموحّدين) فصلٌ مهم في (منافاة الديمقراطية للتوحيد) فليُقرأ

الفائدة العاشرة: الإخوان المسلمون أشغلوا الناس بالحاكمية؛ ولما أزالوا الحاكم أصبحوا لا يريدون الشريعة

الفائدة الحادية عشرة: الخروج على الحاكم لا يظهر فجأة؛ وأعظم ما يوطّئ له: اللسان

الفائدة الثانية عشرة: ثلاثة أحاديث ينبغي لزومها وقت الفتن: "كفى بالمرء إثماً أن يُحدّث بكل ما سمع"، "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت"

الفائدة الثالثة عشرة: أعظم ما يُصلح اللسان؛ أن يكون رطباً بذكر الله

الفائدة الرابعة عشرة: أكثر البلاء زمن الفتن؛ يأتي بسبب طلب الشهرة

الفائدة الخامسة عشرة: الفِرَق الهالكة لا يدخل فيها مِن العوامّ إلا مَن عَلِمَ ووافقَ الأئمة المضلين

الفائدة السادسة عشرة: التوحيد أساس العدل

الفائدة السابعة عشرة: كتاب الفتن من (سنن ابن ماجة)؛ أعظم وأهم كتب الفتن من (الكتب الستة) المعروفة، لفقهه وقوة جمعه ودقة تبويبه لأبواب هذا الكتاب

الفائدة الثامنة عشرة: خمس فوائد أخذها ابنُ تيمية من قول الله (عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم)، وقد رأى الشيخُ رؤيا عبّرها بأنه يحدّثنا عن هذه الفوائد الخمس، فقرأها من فتاوى ابن تيمية 14/479، وإليك كلام ابن تيمية بتصرف واختصار: (في الآية فوائد عظيمة: أحدها: ألا يخاف المؤمن من الكفار والمنافقين فإنهم لن يضروه إذا كان مهتدياً، الثاني: ألا يحزن عليهم ولا يجزع عليهم فإن معاصيهم لا تضره إذا اهتدى، والحزنُ على ما لا يضر عبث،الثالث: ألا يركن إليهم ولا يمدّ عينه إلى ما أُوتوه من السلطان والمال والشهوات، فإن الإنسان قد يتألم عليهم ومنهم إما راغباً وإما راهباً، الرابع: ألا يعتدي على أهل المعاصي بزيادة على المشروع في بغضهم أو ذمّهم أو نهيهم أو هجرهم أو عقوبتهم، بل يقال لمن اعتدى عليهم: عليك نفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت، فإن كثيراً من الآمرين الناهين قد يتعدّى حدود الله إما بجهل وإما بظلم، الخامس: أن يقوم بالأمر والنهي على الوجه المشروع من العلم والرفق والصبر وحسن القصد وسلوك السبيل القصد فإن ذلك داخل في قوله "عليكم أنفسكم" وفي قوله "إذا اهتديتم"، فهذه خمسة أوجه تُستفاد من الآية لمن هو مأمور بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتأمّل الآية في هذه الأمور؛ من أنفع الأشياء للمرء) انتهى كلام ابن تيمية رحمه الله

ختاما .. أنصح إخواني طلاب العلم بالرحلة للشيخ، وأول من أوجّه له النصح: إخواني الذين تصدّروا للناس وبلغت بهم الشهرة مبلغاً، فلا يظنوا أنفسهم في غنى عن مجالسة العلماء القدوات والكبار الأفذاذ

إن الفائدة من الرحلة للشيخ لا تقتصر على حضور الدروس فحسب كما هو الحال مع كثير من علماء العصر؛ بل يمكنك التقاء الشيخ ومخالطته والاقتداء به عملياً والاستفادة من سيرته وطريقته وسمته قبل علمه، وهذا سرّ انبهار طلاب العلم الذين رحلوا للشيخ

مجالسةُ الشيخ تُهذّب النفس، وتُظهِر للمرء حقيقة نفسه المقصّرة، وهو من خيرة الكبار الذين يضبطون منهج أهل السنة في التعامل مع الفتن؛ بعلمه الواسع وأصوله الراسخة وحكمته البالغة، لا سيما والفتن المعاصرة أظهرت ضعف البعض في فهم أصول أهل السنة ممن كان يُرجى منه قيادة الناس لبرّ الأمان

لستُ مبالغاً في الوصف؛ فقد سعى الشيخُ (ولا أزكي على الله أحداً) لتعليم الناس وتربيتهم على عقيدة ومنهج أهل السنة، وسعى غيرُه للشهرة؛ فرفع الله ذكر الشيخ وأمات ذكرهم، فاللهم احفظ الشيخ وبارك فيه واحفظ إخواني من أهل السنة وبارك فيهم، والطف بنا يا رب العالمين

قاعدة في حكم التصوير


* اتّفق العلماء على تحريم التصوير، واختلفوا في: ما التصوير المحرم؟

والجواب: (للتصوير حالتان):

(الحالة الأولى): أن يكون للمُصوّر جُهد وعمل في الصورة، فهذا محرم، وهو المراد في الأحاديث التي نهت عن التصوير، ومثال هذا النوع من التصوير: النحت على الحجر أو الخشب، التشكيل والتجسيم، الرسم باليد

(الحالة الثانية): ألاّ يكون للمصور عمل وجهد، وهو التصوير بآلات التصوير الحديثة سواء الثابت (الصورة) أو المتحرك (الفيديو)، وهذا فيه خلاف بين المعاصرين، والصحيح الجواز، وممن أجازه الشيخ محمد ابن عثيمين رحمه الله

الدليل على هذا التقسيم: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يقال للمصورين يوم القيامة أحيُوا ما (خلقتم)"، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: "قال الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب (يخلق) كخلقي" والحديثان في البخاري ومسلم

وجه الدلالة من الحديثين: أن قول (خلقتم) وقول (يخلق) يدل على أن التصوير المحرم خاصّ بالتصوير الذي يكون للمصور فيه عمل

ويُؤكّد هذا: أن النصوص التي جاءت في النهي عن التصوير؛ إنما جاءت في التصوير باليد، رسماً أو نحتاً أو تجسيماً، بينما التصوير بالآلات الحديثة لم يكن له وجودٌ وقت ورود هذه النصوص الشرعية

ومن ألحق (التصوير بالآلات الحديثة) بالتصوير المحرم المنهي عنه فقد بنى هذا الإلحاق على اشتراك النوعين في اسم (التصوير) وهذه حُجّة ضعيفة (من وجهين):

(الوجه الأول): أن الشريعة لم تجعل (اسم التصوير) سبباً وعلّة لتحريم التصوير، بمعنى أنه لا يوجد دليل شرعي يرشدنا لتحريم كل شيء يحمل اسم (التصوير) أو (الصورة)، بحيث نجعل الاسم قاعدة نعتمد عليها في تحريم التصوير بالآلات الحديثة

(الوجه الثاني): أن تسمية التصوير بالآلات الحديثة (تصويراً)؛ تسميةٌ حادثة (متأخّرة في الزمن)، فلم يكن لهذا النوع من التصوير وجودٌ وقت مجيء النصوص الشرعية التي نهت عن التصوير، فلا يُبنى التحريم على مجرد تسمية هذا النوع الحديث بـ (تصوير)

* خمس تنبيهات مهمة:

(التنبيه الأول): حين أتحدّث عن (عمل وجهد المصوّر)، فأنا لا أتحدث عن عمل يسير غير مؤثّر، مثل: إعداد آلة التصوير أو التحكّم في مفتاح التشغيل، بل أتحدث عن عمل يستحقّ المصور بسببه أن تُنسب هذه الصورة له، بحيث يكون صانعاً أو خالقاً لهذا الإنسان أو الحيوان المصوّر، وهذا الفرق مؤثّر في حكم التصوير، وهو مبني على ما جاء في الحديث السابق: "يخلُق كخلقي"

(التنبيه الثاني): يلاحظ هنا أنني قلتُ (التصوير بآلات التصوير الحديثة)، وأقصد بذلك ما يسمى حالياً بـ (الكاميرات)، لأني سأتحدث لاحقاً عن نوع مختلف من التصوير تُستخدم فيه الآلات الحديثة غير (الكاميرا)، وهو الرسم بالأجهزة والبرامج الحديثة

(التنبيه الثالث): مع أن التصوير بالآلات الحديثة يحمل اسم (التصوير)، إلا أن حقيقته أقرب ما تكون لـ (الالتقاط)، فالمُصوّر بالآلة الحديثة يلتقط خلقَ الله (من إنسان وحيوان) على الهيئة التي خلقه اللهُ عليها، وليس في هذا الالتقاط ما يجعل في عمل المصوّر مشابهة ولا مماثلة لخلق الله تعالى، لذلك نجد من يُطلق عليها اسم: (لقطة) ولا يسمّيها (صورة)، مع أنها لو سُمّيت (صورة) لم يكن في هذه الاسم إشكال، إذ لا يمكن تحريم الشيء بالنظر لاسمه، وقد سبق بيانه في (الوجه الأول)

(التنبيه الرابع): هناك نوع من أنواع التصوير، يكون بالآلات والوسائل الحديثة، إلا أن للمصور فيه جهدٌ وعمل، وهو الرسم عن طريق الأجهزة الحديثة وباستخدام برامج وتطبيقات الرسم وصنع الصور، وهذا النوع يختلف عن التصوير بآلات التصوير الحديثة (الكاميرات)، فالكاميرا تقوم بالتقاط الصورة الحقيقية للإنسان، على الهيئة التي خلقه الله عليها، والجهد المبذول هنا من المصور ليس أكثر من التقاط خلق الله، أما الجهد المبذول ممن يرسم صورة بالأجهزة الحديثة مُستخدماً برامج الرسم الحديثة فهو أشبه بالجهد الذي يبذله من يرسم بيده على الورقة مباشرة، ولأجل هذا ترددتُ في حكمه، وهو عندي أقرب ما يكون للحالة الأولى من حالات التصوير، وهو التصوير المحرم الذي يكون للمصور فيه جهد وعمل

(التنبيه الخامس): هناك برامج وتطبيقات تنتج صورا دون الحاجة لجهد وعمل من المستخدم، كتلك البرامج التي تقوم بتعديل صور حقيقية ملتقطة بالكاميرا الحديثة، أو البرامج التي تعمل على معالجة الصور بالذكاء الاصطناعي، بحيث يتم التعديل أو المعالجة بخطوات يسيرة، وربما بخطوة واحدة حتى، وهذا النوع من التصوير أو الرسم يتم بجهد غير مؤثر من المستخدم، فلا يمكن أن تنسب الصور فيه للمصور، ولعل هذا النوع أقرب للحالة الثانية من حالات التصوير، نظرا لتخلّف صفة التأثير في عمل المصور

* مسائل متفرقة
وعددها: ثلاث عشرة مسألة:

(المسألة الأولى): بيّن ابن حجر رحمه الله في كتابه فتح الباري أن (الصورة) تُطلق على المرسوم وتطلق على المُجسّم

(المسألة الثانية): لا يصح الاعتراض على التصوير بأن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صور.. وذلك أن الحديث جاء من رواية الصحابي أبي طلحة الأنصاري، وقد سمعه منه الصحابي زيد بن خالد الجهني، وسمعه من زيد اثنان من التابعين، هما: بُسر بن سعيد وعبيد الله الخولاني.. فمرض زيدٌ، فزاره التابعيان، فوجدا على باب بيته سِتْرا فيه صورة، فقال عبيد الله: ألم يُخبرنا عن الصور يومَ الأول؟ فقال بسر: ألم تسمعه حين قال "إلا رقما في ثوب"؟ فقال عبيد الله: لا، فقال بسر: بلى قد قال ذلك (انظر الحديث والقصة في البخاري ومسلم)

تتلخّص من القصة (ثلاثة أمور): 

(الأمر الأول): ليست كل الصور تمنع دخول الملائكة، لأن الصحابي روى الحديث ومع ذلك لم يعتبر كل صورة مانعة من دخول الملائكة

(الأمر الثاني): أن الصور المرسومة على الثوب أو القماش لا تمنع دخول الملائكة، وهو ما يعبّر عنه البعض بـ (الصور التي لا ظلّ لها)، بخلاف الصور البارزة التي لها ظلّ، والتي تكون مجسّمة أو منحوتة

(الأمر الثالث): أن هذا الذي فهمه الصحابي والتابعيان من حديث النبي صلى الله عليه وسلم

(المسألة الثالثة): لا يصح الاعتراض على وجود الصور: بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عائشة بإزالة الصور التي رآها في البيت.. وذلك أن السبب الذي لأجله أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإزالة الصور: أنها (أشغلته في الصلاة)، وهذا ما جاء صريحاً في حديث أنس (كما في صحيح البخاري)

(المسألة الرابعة): كيف يكون تعليق الصور التي لا ظلّ لها أمراً مباحاً، ويكون ﺻُﻨﻌﻬﺎ باليد أمراً محرماً؟ الجواب: لا إشكال في هذا؛ فقد يأثم من رسم أو صنع الصورة بيده، ولا يأثم من تحصّل عليها وعلّقها، فتلك مسألة وهذه مسألة أخرى، تماماً كما يأثم المرء إذا اكتسب المال من تجارة مُحرّمة، ولا يأثم أولاده حين يتحصّلون على هذا المال بعد موته عن طريق الإرث، لأن تحصيل على المال بطريقة محرّمة مسألة، بينما الحصول على المال بطريقة الإرث مسألة أخرى

(المسألة الخامسة): مسألة التصوير بالآلات الحديثة فيها خلاف بين العلماء المعاصرين، فلا ينبغي التعصب لأي قول من الأقوال، كما لا يترتّب على الاختلاف فيها عداوة

(المسألة السادسة): ممن رأى جواز التصوير بالآلات الحديثة الشيخُ ابن عثيمين رحمه الله، ومع أن للشيخ فتاوى كثيرة غير صريحة وتشعر بالتحريم؛ إلا أن له فتوى واضحة وصريحة بالجواز وبأن التحريم خاص بالصورة التي يكون للمُصوّر فيه عمل (انظر على سبيل المثال كتاب مجموع فتاوى ابن عثيمين)

(المسألة السابعة): ممن رأى تحريم التصوير بجميع أنواعه الشيخُ ابن باز رحمه الله والشيخُ صالح الفوزان حفظه الله

(المسألة الثامنة): إن كان التصوير لحاجة ومصلحة؛ فإن القائلين بالتحريم يجوّزونه، مثاله: الصور التي يُحتاج لها في البطاقة الشخصية

(المسألة التاسعة): مسألة حكم التصوير، تختلف عن مسألة حكم الغلو في الصور، كما تختلف عن مسألة تصوير مالا يجوز النظر إليه.. فيجب التنبّه لذلك وعدم الخلط بين هذه المسائل.. بمعنى أن من أجاز التصوير بالآلات الحديثة فلا يلزم منه قوله هذا أنه يجيز تعليق أو اقتناء الصور لمن يغلو فيها ويعظّمها أو يتوسّل بها أو ربما يعبدها، كما لا يلزم من قوله هذا أنه يجيز تصوير وعرض ما لا يجوز تصويره والنظر إليه

(المسألة العاشرة): الخلاف المذكور في التصوير؛ خاص بتصوير ذوات الأرواح (الإنسان والحيوان)، أما تصوير الجمادات (مثل: الجبال والأشجار) فليس بمحرم، سواء كان من النوع الذي للمصور فيه جهد وعمل أو من النوع الآخر الذي ليس للمصور فيه جهد ولا عمل، وسواء كان رسماً أو نحتاً باليد أو التقاطاً بالآلات الحديثة

(المسألة الحادية عشرة): من البراهين على أن المصور بالآلات الحديثة ليس له جهد وعمل في الصورة؛ أن الأعمى يستطيع التصوير والتسجيل بمجرد الضغط على المفتاح المخصص للالتقاط، وكذلك الصغير الذي لا يَعقِل

(المسألة الثانية عشرة): البحث في حكم التصوير لا علاقة لها بالهوى، ولا بضعف الإيمان، ولا بتتبّع الرخص، ولا بالأخذ بزلاّت العلماء؛ بل هو بحث قائم على متابعة الدليل، فلا يُقبل اتهام من أجاز هذا التصوير بشيء مما سبق، وكما أن المرء يُطالب بعدم تحليل شيء حرّمه الله ورسوله، فهو مطالب كذلك بعدم تحريم شيء أحلّه الله ورسوله أو لم يحرّمه الله ولا رسوله

(المسألة الثالثة عشرة): ليس الغرض من كتابة المقال الدعوة للتصوير والتوسع فيه، بل المراد توضيح المسألة حتى لا يُشنّع أحد على الآخر، فمن أخذ بالتحريم تقليداً لمن قال بالتحريم؛ فله ذلك، ومن أخذ بالجواز تقليداً لمن قال بالجواز؛ فله ذلك

هذا ما أردتُ قوله في المسألة، والله الموفق لكل خير

مفكرة شهر محرم

خطرت ببالي فكرة كتابة المسائل الشرعية المتعلقة بكل شهر من الأشهر، حفظاً للسنة ونشراً للعلم وحثاً على العبادات التي ضيّعها كثير من الناس إلا من رحم الله وقليل ما هم

هذه المفكرة تقتصر على النقل عن أهل العلم على سبيل الاختصار دون بذل الوسع في الترجيح والتفصيل والشرح والاستدلال


مفكرة شهر محرم


أولاً نهاية وبداية العام:

* لم يكن السلف يتقصّدون (ختم العام) أو (بدء العام الجديد) بعبادة كالصيام أو الصدقة أو محاسبة النفس؛ وعليه: فتخصيص بداية أو نهاية العام بعمل شرعي: بدعة منكرة
* ليس هناك دليل يثبت أن لكل عام صحيفة أعمال تُطوى بانتهائه
* ليس في الشرع (دعاء) لأول أو لآخر العام (بكر أبو زيد)
* لا بأس بالتهنئة بالعام الهجري؛ لأن هذا من العادات (ابن عثيمين)
* لا تجوز التهنئة بالعام الميلادي؛ لأنه ليس عاماً شرعياً، ولأنه يوافق عيداً من أعياد الكفار (ابن عثيمين)
* تخصيص خطبة آخر جمعة في العام للحديث عن العام المنصرم؛ فعلٌ لا أصل له (الفوزان)
* من الأمور التي تدل على أن الشرع لم يجعل لنهاية أو بداية العام أي عبادة خاصة؛ أن التأريخ الهجري لم يُحدّد إلا في عهد عمر رضي الله عنه

ثانياً شهر محرم:

* لا يجب تحرّي دخول شهر محرم لأجل يوم عاشوراء؛ لأن صيامه ليس بواجب (ابن باز)
* يستحب صيام شهر محرم كاملاً (ابن باز وابن عثيمين)
* في الحديث “أفضل الصيام بعد شهر رمضان؛ شهرُ الله المحرّم” (رواه مسلم)
* تسمية محرم بـ (شهر الله) دليل على شرفه وفضله لأنه أُضيف إلى الله تعالى (ابن رجب)
* أفضل أيام شهر محرم؛ العشرُ الأولى منه (ابن رجب)

ثالثاً يوم عاشوراء:

* عاشوراء هو اليوم العاشر من محرم
* يُصام عاشوراء بناء على (الرؤية) وليس على التقويم (ابن باز)
* عند الاشتباه فإنه يُعمل بالاحتياط (ابن باز) .. ومعنى كلامه أنه في حالة الشكّ في تحديد يوم عاشوراء فإننا نصوم قبله وبعده من الأيام ما نتيقّن به صيام عاشوراء؛ على سبيل الاحتياط
* عند الشك في دخول الشهر؛ يستحب صيام يوم قبله ويوم بعده احتياطاً (ابن باز)
* صيامه "يُكفّر السنة الماضية" (رواه مسلم)
* عاشوراء كان يصومه الأنبياء وأهل الكتاب وقريش في الجاهلية (ابن رجب)
* كان السلف يصومون عاشوراء حتى في السفر، روي ذلك عن ابن عباس والزهري (ابن رجب)
* قال الزهري: رمضان له عدّة من أيام أخر، وعاشوراء يفوت (ابن رجب)
* قال ابن عباس: ما علمت أن رسول الله صام يوما يطلب فضله على الأيام إلا يوم عاشوراء (رواه البخاري ومسلم)
* تخصيص عاشوراء بالحزن أو بالفرح بدعة (ابن تيمية)
* يجوز صيام العاشر لوحده، ويحصل به أجر صيام عاشوراء (ابن عثيمين)
* الأفضل أن يُصام معه اليومُ التاسع
* إذا صادف عاشوراء يوم السبت؛ فإنه يُصام (ابن باز وابن عثيمين)
* حديث النهي عن صيام يوم السبت حديث ضعيف (ابن باز)
* إذا صادف عاشوراء يوم الجمعة؛ فإنه يُصام ولو لم يصم معه الخميس أو السبت (ابن باز وابن عثيمين)
* تكفير الذنوب خاص بالصغائر ولا يشمل الكبائر (ابن باز)
* تكفير الذنوب يكون لمن ترك المعاصي ولم يصرّ عليها (ابن باز)
* لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم في عاشوراء إلا الصيام (ابن باز وابن عثيمين)
* الأحاديث الواردة في تخصيص عاشوراء بالاغتسال والاختضاب والاكتحال والتوسعة على العيال؛ كلها لا تصح، وقد روّج لها من يريد مخالفة الرافضة فأخطأ حيث ردّ البدعة ببدعة والباطل بباطل (ابن تيمية وابن رجب وابن باز وابن عثيمين)
* يجوز صيام عاشوراء بنية قضاء رمضان ونية فضيلة صيام يوم عاشوراء (ابن عثيمين)
* من نوى صيام عاشوراء في النهار؛ فإن صيامه صحيح بشرط ألا يكون قد أكل أو شرب (ابن عثيمين)
* من أتى عليه يوم عاشوراء وهو معذرو؛ فإنه لا يقضيه بعد فواته (ابن عثيمين)
* للنبي صلى الله عليه وسلم مع يوم عاشوراء أربع حالات (ابن رجب):
الحالة الأولى: كان يصومه بمكة قبل الهجرة ولا يأمر الناس بصيامه
الحالة الثانية: لما هاجر للمدينة ورأى أهل الكتاب يصومونه؛ صامه وأمر الناس بصيامه وأكّد عليه
الحالة الثالثة: لما فرض الله صيام رمضان؛ ترك أمر الناس بصيام عاشوراء وترك التأكيد عليه
الحالة الرابعة: عزم في آخر حياته أن يصومه ويصوم معه يوماً آخر ليخالف اليهود، لكنه مات قبل أن يأتي عاشوراء

رابعاً الصيام:

* قال تعالى: (كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية)؛ قال مجاهد: نزلت في الصوم (ابن رجب)
* في الحديث "كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم؛ فإنه لي وأنا أجزي به" (رواه البخاري ومسلم)
* قال بعضهم: إنما هو غداء وعشاء؛ فإن أخّرتَ غداءك إلى عشاءك كُتبتَ في الصائمين (ابن رجب)
* من داوم على الصيام اعتاد عليه فلا يشقّ عليه

بعد انقطاع


انقطعتُ عن التواصل الاجتماعي مدّةً ثم عدْتُ، ولا يزال الحالُ على ما كان عليه، وكأني لم أغب أكثر من أسبوع

طبيبٌ لم يُشْفَ من داءِ العظمة.. يتحدّثُ في كل شيء، يُنظّر في كل فنّ، ‏يخوض في كل أمر..  الدين، السياسة، شؤون العالم... ومؤخّرًا: مآسي المسلمين ، ‏يُصادم باستمرار؛ لأنه المثقّف الوحيد على وجه الأرض، والمُطالب بتثقيف البُلهاء والغوغائيين، ‏الذين يمثّلون (في نظره) الجزءَ الأكبر من سكان المعمورة

مُجَوِّدٌ يعشق غرائبَ الأمور، اعتادَ الشهرةَ حتى أدمنها، ‏والنجوميةَ حتى وقع في شِراكِها، فأصبحتْ هدفًا له، ‏يتنفّسُها، ‏بل: يفخر ويهذي ويقتاتُ بها.. ‏بالتهكّم، بالسخرية... أو حتى بتغريداتٍ تُثير الرأيَ ضدّه! ‏المهم أن يُلاكَ اسمُه على الألسُن، بالخير أو الشر؛ لا فرق

مفكّرٌ ينزلُ كلّ يومٍ درجةً، ‏ليكسب وُدّ فئة من المثقّفين، ‏ويحظى بإشادة عصابة من الإعلاميين، وما درى أن لقب (التنوير) الذي سعى إليه، ‏ليس شهادة تخلّص من الفكر (الظلامي) كما يقول، ‏بقدر ما يُعَدُّ إعلانَ براءة من دِيْن الصحابة والتابعين، وأحاديث البخاري ومسلم، وعِلْم مالك والشافعي

جميع مَن سبق وقع ضحية تصوّرات فاسدة..

‏فأوّلهم ضحية لُغة الـ (أنا).. فـ (أنا) عرّابُ الثقافة، و(أنا) مَلِكُ الفلسفة، ‏أما (أنتم)! ‏فلا بدّ أن تتعلّموا كثيرًا ‏كي تفهوا أطروحاتي الراقية (جدًا)

وثانيهم ضحية (الثقة الزائدة).. ‏بعقله، ‏بذكائه، ‏بمقدرته على إفحام الآخرين! ‏من أراد مبارزتي ‏فـ لـ (يُمنشنني)، ومَن جادلني فلا يلومنّ إلا نفسه

وآخرُهم ضحية الوَلَع بـ (التطوير)، ‏والركض وراء (التجديد)، ‏فباتَ يُنادي بـ (التنوير) الذي يقصد به نفسَه، ‏ويلعنُ (الظلام) الذي يرمي به خُصومَه، ‏فرِحًا بإشادات فئة من المثقّين ‏تُرحّب بمَن يهدم الثوابت، وعصابة من الإعلاميين ‏تُصدّر مَن يُحقّق أهدافهم

ختاما.. اعلم : ‏أنّ تديّنك واستقامتَك، ‏ليس مسؤولية عالم ولا حاكم، ‏(بل هو مسؤوليتك أنتَ)! تثقّف في دينك.. بنفسك، وحافظ على عقيدتك.. بنفسك، وتمسّك بمبادئك.. بنفسك، ولا تنتظر من الآخرين ‏تثبيتك على الهُدى ‏وإرشادَك للحقّ، وكن مستعدّا للعيش في زمنِ كثرة المُضلّلين، فالباطل مستمر، والحقّ عليه نورٌ

أستودعكَ الله، وأستودع اللهَ دينَك

مقبل الوادعي .. الرجل الذي لم تر اليمن مثله منذ قرون

عمِل حارس عمارة بمكة، أهديتْ له بعض مقررات التوحيد المدرسية، تأثر بها وبكتاب فتح المجيد فرجع إلى بلده يعلم الناس التوحيد وينكر عليهم الشرك، عاداه أهلُ بلده، أجبروه على دراسة مذهبهم لتزول ما في رأسه من شبهات! لكنه عاد للسعودية ودرس فيها

تخرّج من (الجامعة الإسلامية) بشهادتين: كلية الدعوة "انتظام"، وكلية الشريعة "انتساب"، يقول: خشيتُ ذهابَ الوقت وأردتُ التزودَ مِن العلم، قال المشرفُ على رسالة الشيخ للماجستير: لو كانتْ أنظمة الجامعة تسمحُ؛ لأُعْطِيَ الشيخُ بهذه الرسالة الماجستير والدكتوراة معًا

مِن تحمّله أنه ربما مسح خيوط العنكبوت من كِسر الخبز وأكلها، وربما لم يجد إلا ماء  زمزم! كان يتلذّذ بالعلم ويقول: يعلم الله أني أتصوّر أني مَلِك، 

أثّر فيّ قوله لطلابه: "أنا أكثرُكم أولادًا؛ لأنكم كلكم أولادي" وكان طلابُه جاوزوا الألفين، والشيخُ لم يُرزق أولادًا ذكورًا

موقف طريف يدل على صدق الشيخ وصراحته: سأله الرئيسُ يومًا: هل تدعو لي؟  قال الشيخُ: أحيانًا! فقال الرئيس: فادع لي بالصلاح

لم يكن يطلب العلم للدنيا!.. ومن العجائب أنّ شهاداته ضاعتْ ولم يعد يدري عنها! ومِن بينها شهادة الماجستير، وكان يقول: "هذه الشهادات ستذوب"

أثنى عليه ابن باز، والألباني، بل قال عنه ابن عثيمين: "والله إني لأعتقد أنّ الشيخَ مقبل إمامٌ مِن الأئمة"

كان كثير المحاسبة لنفسه.. حتى قال: لمّا ظهرتْ لي أوّل شيبة؛ أمسكتُ لحيتي وقلتُ: ماذا قدّمتَ للإسلام يا مقبل؟!

بعد مغرب السبت 15/3/1421 هـ ألقى آخرَ دروسه على طلابه، حيث تم إسعافه قبل فجر الأحد، ثم سافر للسعودية لاستكمال العلاج، من السعودية تقرّر أنْ يُسافر الشيخُ لأمريكا، أراد العودة لليمن لإرجاع أهله، ومِن ثمّ السفر لأمريكا، فعاد لليمن واستُقبل استقبالا حافلا، ألقى كلمة وداع، بدأها بقوله: "لعلكم لا تلقوني بعد عامي هذا"، ثم سافر مستكملا رحلة العلاج، لكن الأطباء أفادوا بصعوبة حالته، فرجع للسعودية، كتب وصيته، وتوفي بعدها بـ 10 أيام، قال أحد مرافقيه: كأننا نحن المرضى والشيخُ يُسلّي عنّا! صُلّي عليه في الحرم المكيّ ودفن بمقبرة العدل جوار ابن باز وابن عثيمين

مقبل بن هادي الوادعي.. مِن علماء اليمن، نشأ يتيمًا، لم يُولد له ذكورٌ، بناته 4، تُوفّي عن زوجتين، وُلد سنة 1352 هـ، توفّي سنة 1422 هـ، عن 70 سنة

مِن أقواله: 

* مَن أرادَ أن يُجالسَ الكذّابين فليقرأ الصحف
* العامّة؛ إنْ قلّ الخبزُ والسكرُ والملوخيّة؛ فهم مُستعدّون أنْ يُكفّروا الرئيس، وإنْ أتى لهم بحاجاتهم قالوا: هذا خليفةٌ راشد
* مَن تنكّر للسنّة أذلّه الله 
* مَن عاند السنّة فلا تَعْجَل عليه.. اللهُ سينتقمُ منه
* العلمُ خيرٌ مِن المُلْكِ والرّئاسَة
* لا أعرفُ حِزْبيّا لا يكذب
* الشّأنُ كُلّ الشّأنِ كيفَ نُعالجُ الواقعَ، لا: كيفَ نَعْرِفُه
* الشعوبُ ليستْ مُؤهّلةً للجهاد، هي محتاجةٌ للتعليم
* مُخالفةُ الناس تحتاج إلى شجاعة
* الحكومة الجائرة خيرٌ مِن الفوضى
* مَن تعلّق بالسياسة العصرية فَسَدَتْ دعوته
* لا يُفلح طالبُ العلم إلا إذا جعلَ الدنيا لوقت فراغه
* لن أترك أحدًا يطعن في السنّة، ولو لم يبقَ إلا أنْ نتعاضضَ بالأسنان لتعاضضنا
* لو نراعي خواطر المسلمين ما عمِلنا بسُنّة مِن السنن
* يعلمُ الله لو دُعينا لرئاسة الجمهورية لما أجبنا، فقد أحببنا العلم

أنصح بقراءة كتاب: الإمام الألمعي مقبل بن هادي الوادعي