مِن أوعية العلم .. زيارة للشيخ عبدالله العبيلان

يسّر الله لي زيارةَ مدينة (حائل)، والتقاءَ العالِم الفذّ فضيلة الشيخ/ (عبدالله بن صالح العبيلان) حفظه الله، ومَن يعرف فضيلته يعلم أن مجالسه عامرة بنور الوحي، ويعرف أنه ذو شخصية مُشعّة، قلّما يرجع الطالب من عنده إلا وقد اقتبس منه شُعبة، ناهيك عن الغيرة على الدين، وتعظيم السنة، ومفاصلة أهل الأهواء، لا سيما وقد جمع مع هذا كله: حكمةً، وهيبةً، وفصاحةً، لا تملك وأنت تخرج من عنده إلا أن تقول: (ما أجمل العلم إذا جُمِعَ في وعاء كهذا)، ويعلم الله أنني رجعتُ من عند فضيلته بهمّة عالية وروح متوقّدة وحظّ وافر من ميراث الأنبياء

لم أرد التعريف بفضيلته بقدر ما أردت تقييد المشاهدات والفوائد التي خرجتُ بها من هذه الزيارة

فمن مشاهداتي:

المشاهدة الأولى: ثبات الشيخ في الوقت الذي تقلب فيه كثير من الدعاة وطلبة العلم، ومما ينبغي أن يتنبّه له أن المتقلّب يُختبر ولا يُؤمن جانبه حتى تحسن توبته من البدعة ويُعلم شفاؤه من الداء الذي فيه، وهذا ما فعله عمر رضي الله عنه مع (صبيغ بن عسل) لما نفاه وكتب لأهل البصرة ألا يُجالسه أحد، بل هو ما دلّ عليه قول ربنا (إلا الذين تابوا وأصلحوا وبيّنوا)

المشاهدة الثانية: من أسرار ثبات الشيخ تمكنه من العلم قبل أن يظهر للناس، والتزامه الدعاء وسؤال الثبات، وتقليله من شأن نفسه؛ حتى لقد قلتُ له: (مَن يعرفك يعلم أنك لم تتقلّب كما تقلّب كثير من الدعاة وطلبة العلم)، فبادرني قائلاً: (.. لأنني أنقل؛ ولا أقول شيئاً من عند نفسي)! فعجبتُ له؛ كيف نسبَ الثبات للعلم الذي يحمله لا لذاته، وهذا ملحظ دقيق

المشاهدة الثالثة: إدمانه النظر في كتب الحديث، والقراءةُ في كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم كمجالسته؛ لا يشتاق لها إلا من قوي حبه وتعظيمه للنبي صلى الله عليه وسلم (أهلُ الحديثِ همُ صحْبُ النبيّ وإنْ .. لم يَصْحبوا نفسَه أنفاسَه صَحِبوا)

المشاهدة الرابعة: علو قدر الشيخ وعدم تأثّر مكانته بالرغم من محاربة الخصوم له وتعرّضه للافتراء والأذى، وصدق الله (إن الله يدافع عن الذين آمنوا)

المشاهدة الخامسة: تأثيره على طلابه وعدم تأثّره بهم كما هو حال بعض العلماء والدعاة الذين تغيّرت مناهجهم بسبب بعض طلابهم، وعلامة ذلك (غالباً) أن الطالب؛ إما أن يتأثر بشيخه أو يهجره

المشاهدة السادسة: حرصه - مع الرد على المخالفين - على بثّ العلم ومدارسته وتقرير مسائله، بل يراه العلم الحقيقي ويرى أن الانشغال بالردّ على أصحاب الفكر أمر عارض بحسب الحاجة

المشاهدة السابعة: كثيراً ما يوصي بالنقل عن ابن تيمية، لا سيما والشيخُ من أكثر الناس اطلاعاً على كتب ابن تيمية واستحضاراً لأقواله واختياراته، ومن الأمور الطريفة أنني سألته (كم مرة قرأتَ مجموع فتاوى ابن تيمية؟) فأجاب إجابة عامة ليس فيها ثناء على نفسه، فقلتُ ممازِحاً: (أما أنا فأقدّر أنك قرأتَها ما لا يقل عن سبع مرات) فتبسّم، ثم قلت له: (إن فلانا [رجل عليه مؤاخذات] يزعم أنه قرأها ثلاث مرات، ولعله يا شيخُ قرأَ مجموعاً آخر) فضحك وقال: العبرة بالقلب الذي يعي ما يقرأ

المشاهدة الثامنة: استقباله لطلاب العلم من داخل وخارج المملكة، حتى يُخيّل إليك أن الرحلة في طلب العلم لم تنقطع بموت المتقدمين من أئمة الحديث، يعقد لهم الدروس ويشرح لهم ما يسّر الله دراسته من الكتب، ثم ينصرفون لأهلهم بعلم غزير وسمْت لا يكاد يكون له نظير، ومما يُشار إليه أن الفضل في فكرة الدورات العلمية يرجع بعد الله للشيخ، فهو أول من بدأها في السعودية، حتى لقد قلتُ له: (أنت أول من ابتكر فكرة الدورات العلمية في العالم العربي!) فقال: (بل في السعودية، أما خارجها فلا أعلم)

المشاهدة التاسعة: زهد الشيخ وبعده عن الدنيا وانقطاعه عنها، فقد اختار لنفسه مزرعة متواضعة ومسكناً متواضعاً في قرية صغيرة تبعد عن حائل قرابة عشر كيلو مترات

المشاهدة العاشرة: كثرة الافتراءاتْ التي قيلت في حقّ الشيخ، ومع هذا لا يتأثر ولا يتذمر، بل: وكأنه لا يسمع! وحقّ للشيخ ألاّ يعبأ بهم؛ فالبعضُ يفرح إذا استطاع صرفَ أهل الحق عن العلم والتعليم

المشاهدة الحادية عشرة: تمثّله بالنصوص الشرعية عند ردّ الافتراء عن نفسه، وهذا ملحظ دقيق؛ حيث إن المرء يجد من نفسه نشاطاً في الدفاع عن الذات أكثر من نشاطه في تقرير العلم، وقد أخبرني الأخ أبو فيصل أن الشيخ لم يزد في التعليق على فرية قيلت فيه بأكثر من ثلاث كلمات، هي قول الله تعالى (ستُكتب شهادتهم ويُسألون)

المشاهدة الثانية عشرة: مما آلمني زهد الكثيرين في العلم، فأصبح الانشغال عن العلم هو الغالب على طلبة العلم بعد أن كانوا ينشغلون به، فمتى يعي طلاب العلم أن في طلب العلم؛ السعادة والنجاة في الدينا والفوز والفلاح في الآخرة؟

المشاهدة الثالثة عشرة: التوازن والاعتدال عند الشيخ سمةٌ ظاهرة، فمع حُرقته على السنة وحزْمه مع مخالفيها، ومع حبه لأئمة الهدى من الصحابة والتابعين والأئمة الأعلام؛ إلا أنك لا تسمع له كلمة تصبّ في جانب الغلوّ، وهذا من أندر ما يكون، بل لا يوفّق له إلا من كان الله معه، فالشيخ معتدل في نقده وتحذيره؛ فلا تجد عنده عبارات التهويل، كما أنه معتدل مُقلّ في ثنائه وتزكيته؛ فلا يرفع أحداً فوق منزلته مهما حمل له في قلبه من الحب والتعظيم، وحريّ بمن كان متزناً أن يكون راسخاً

المشاهدة الرابعة عشرة: ممّا يَتّفق عليه طلاب العلم أن قوة التأصيل وعمق الفهم من أبرز ما يميز الشيخَ، هذا الأمر يدركه مَن جالسه أو أنصت لدروسه، ومنذ أكثر من عشرين سنة؛ وففي الوقت الذي يتخبّط فيه بعضُ الناس؛ ظهر الشيخ بتأصيلات فريدة وقواعد عميقة ونقولات نفيسة عن أئمة السنة، وما لبث الشيخُ حتى أصبح المنكرون بالأمس موافقين مسلّمين مذعنين للحق الذي أجراه الله على لسانه

وبعدُ .. فهذه بعض الفوائد والعبارات النفيسة التي سمعتها من فضيلته في تلك الزيارة، وما كان فيها من قصور فهو إلى فهمي وذاكرتي أقرب: 

الفائدة الأولى: إذا رأيتَ الرجل يستخفّ بالدم؛ فاعلم أنه لا عقل له

الفائدة الثانية: لا يصح الاستدلال بقتال الصحابة فيما بينهم؛ لأن القتالَ لم يكن للدنيا، ولم يَحمده أحد منهم، ثم العبرة ليست بالخطأ بل بما في الكتاب والسنة

الفائدة الثالثة: من يَستدلّ بأخطاء بعض الصحابة؛ ففِعْله كفعل النصارى؛ حيث عبدوا عيسى، وهو ينهاهم عن عبادته

الفائدة الرابعة: الحزبيون لا ينظرون إلى الآخرة

الفائدة الخامسة: المفاهيم التي تعلّمناها من رسول الله؛ بدّلها الحركيّون

الفائدة السادسة: الحركيون؛ علمانيون بثياب إسلامية

الفائدة السابعة: الحركيون أخطر من حاكِم يُصرّح بعلمانيّته؛ لأنه واضح ولا ينسب أقواله للدين

الفائدة الثامنة: الديمقراطية تُحقّق بعضَ حقوق الإنسان وتُحارب حقوق الرحمن

الفائدة التاسعة: للشيخ في كتابه (إكرام الموحّدين) فصلٌ مهم في (منافاة الديمقراطية للتوحيد) فليُقرأ

الفائدة العاشرة: الإخوان المسلمون أشغلوا الناس بالحاكمية؛ ولما أزالوا الحاكم أصبحوا لا يريدون الشريعة

الفائدة الحادية عشرة: الخروج على الحاكم لا يظهر فجأة؛ وأعظم ما يوطّئ له: اللسان

الفائدة الثانية عشرة: ثلاثة أحاديث ينبغي لزومها وقت الفتن: "كفى بالمرء إثماً أن يُحدّث بكل ما سمع"، "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت"

الفائدة الثالثة عشرة: أعظم ما يُصلح اللسان؛ أن يكون رطباً بذكر الله

الفائدة الرابعة عشرة: أكثر البلاء زمن الفتن؛ يأتي بسبب طلب الشهرة

الفائدة الخامسة عشرة: الفِرَق الهالكة لا يدخل فيها مِن العوامّ إلا مَن عَلِمَ ووافقَ الأئمة المضلين

الفائدة السادسة عشرة: التوحيد أساس العدل

الفائدة السابعة عشرة: كتاب الفتن من (سنن ابن ماجة)؛ أعظم وأهم كتب الفتن من (الكتب الستة) المعروفة، لفقهه وقوة جمعه ودقة تبويبه لأبواب هذا الكتاب

الفائدة الثامنة عشرة: خمس فوائد أخذها ابنُ تيمية من قول الله (عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم)، وقد رأى الشيخُ رؤيا عبّرها بأنه يحدّثنا عن هذه الفوائد الخمس، فقرأها من فتاوى ابن تيمية 14/479، وإليك كلام ابن تيمية بتصرف واختصار: (في الآية فوائد عظيمة: أحدها: ألا يخاف المؤمن من الكفار والمنافقين فإنهم لن يضروه إذا كان مهتدياً، الثاني: ألا يحزن عليهم ولا يجزع عليهم فإن معاصيهم لا تضره إذا اهتدى، والحزنُ على ما لا يضر عبث،الثالث: ألا يركن إليهم ولا يمدّ عينه إلى ما أُوتوه من السلطان والمال والشهوات، فإن الإنسان قد يتألم عليهم ومنهم إما راغباً وإما راهباً، الرابع: ألا يعتدي على أهل المعاصي بزيادة على المشروع في بغضهم أو ذمّهم أو نهيهم أو هجرهم أو عقوبتهم، بل يقال لمن اعتدى عليهم: عليك نفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت، فإن كثيراً من الآمرين الناهين قد يتعدّى حدود الله إما بجهل وإما بظلم، الخامس: أن يقوم بالأمر والنهي على الوجه المشروع من العلم والرفق والصبر وحسن القصد وسلوك السبيل القصد فإن ذلك داخل في قوله "عليكم أنفسكم" وفي قوله "إذا اهتديتم"، فهذه خمسة أوجه تُستفاد من الآية لمن هو مأمور بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتأمّل الآية في هذه الأمور؛ من أنفع الأشياء للمرء) انتهى كلام ابن تيمية رحمه الله

ختاما .. أنصح إخواني طلاب العلم بالرحلة للشيخ، وأول من أوجّه له النصح: إخواني الذين تصدّروا للناس وبلغت بهم الشهرة مبلغاً، فلا يظنوا أنفسهم في غنى عن مجالسة العلماء القدوات والكبار الأفذاذ

إن الفائدة من الرحلة للشيخ لا تقتصر على حضور الدروس فحسب كما هو الحال مع كثير من علماء العصر؛ بل يمكنك التقاء الشيخ ومخالطته والاقتداء به عملياً والاستفادة من سيرته وطريقته وسمته قبل علمه، وهذا سرّ انبهار طلاب العلم الذين رحلوا للشيخ

مجالسةُ الشيخ تُهذّب النفس، وتُظهِر للمرء حقيقة نفسه المقصّرة، وهو من خيرة الكبار الذين يضبطون منهج أهل السنة في التعامل مع الفتن؛ بعلمه الواسع وأصوله الراسخة وحكمته البالغة، لا سيما والفتن المعاصرة أظهرت ضعف البعض في فهم أصول أهل السنة ممن كان يُرجى منه قيادة الناس لبرّ الأمان

لستُ مبالغاً في الوصف؛ فقد سعى الشيخُ (ولا أزكي على الله أحداً) لتعليم الناس وتربيتهم على عقيدة ومنهج أهل السنة، وسعى غيرُه للشهرة؛ فرفع الله ذكر الشيخ وأمات ذكرهم، فاللهم احفظ الشيخ وبارك فيه واحفظ إخواني من أهل السنة وبارك فيهم، والطف بنا يا رب العالمين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق