قاعدة في حكم التصوير


* اتّفق العلماء على تحريم التصوير، واختلفوا في: ما التصوير المحرم؟

والجواب: (للتصوير حالتان):

(الحالة الأولى): أن يكون للمُصوّر جُهد وعمل في الصورة، فهذا محرم، وهو المراد في الأحاديث التي نهت عن التصوير، ومثال هذا النوع من التصوير: النحت على الحجر أو الخشب، التشكيل والتجسيم، الرسم باليد

(الحالة الثانية): ألاّ يكون للمصور عمل وجهد، وهو التصوير بآلات التصوير الحديثة سواء الثابت (الصورة) أو المتحرك (الفيديو)، وهذا فيه خلاف بين المعاصرين، والصحيح الجواز، وممن أجازه الشيخ محمد ابن عثيمين رحمه الله

الدليل على هذا التقسيم: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يقال للمصورين يوم القيامة أحيُوا ما (خلقتم)"، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: "قال الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب (يخلق) كخلقي" والحديثان في البخاري ومسلم

وجه الدلالة من الحديثين: أن قول (خلقتم) وقول (يخلق) يدل على أن التصوير المحرم خاصّ بالتصوير الذي يكون للمصور فيه عمل

ويُؤكّد هذا: أن النصوص التي جاءت في النهي عن التصوير؛ إنما جاءت في التصوير باليد، رسماً أو نحتاً أو تجسيماً، بينما التصوير بالآلات الحديثة لم يكن له وجودٌ وقت ورود هذه النصوص الشرعية

ومن ألحق (التصوير بالآلات الحديثة) بالتصوير المحرم المنهي عنه فقد بنى هذا الإلحاق على اشتراك النوعين في اسم (التصوير) وهذه حُجّة ضعيفة (من وجهين):

(الوجه الأول): أن الشريعة لم تجعل (اسم التصوير) سبباً وعلّة لتحريم التصوير، بمعنى أنه لا يوجد دليل شرعي يرشدنا لتحريم كل شيء يحمل اسم (التصوير) أو (الصورة)، بحيث نجعل الاسم قاعدة نعتمد عليها في تحريم التصوير بالآلات الحديثة

(الوجه الثاني): أن تسمية التصوير بالآلات الحديثة (تصويراً)؛ تسميةٌ حادثة (متأخّرة في الزمن)، فلم يكن لهذا النوع من التصوير وجودٌ وقت مجيء النصوص الشرعية التي نهت عن التصوير، فلا يُبنى التحريم على مجرد تسمية هذا النوع الحديث بـ (تصوير)

* خمس تنبيهات مهمة:

(التنبيه الأول): حين أتحدّث عن (عمل وجهد المصوّر)، فأنا لا أتحدث عن عمل يسير غير مؤثّر، مثل: إعداد آلة التصوير أو التحكّم في مفتاح التشغيل، بل أتحدث عن عمل يستحقّ المصور بسببه أن تُنسب هذه الصورة له، بحيث يكون صانعاً أو خالقاً لهذا الإنسان أو الحيوان المصوّر، وهذا الفرق مؤثّر في حكم التصوير، وهو مبني على ما جاء في الحديث السابق: "يخلُق كخلقي"

(التنبيه الثاني): يلاحظ هنا أنني قلتُ (التصوير بآلات التصوير الحديثة)، وأقصد بذلك ما يسمى حالياً بـ (الكاميرات)، لأني سأتحدث لاحقاً عن نوع مختلف من التصوير تُستخدم فيه الآلات الحديثة غير (الكاميرا)، وهو الرسم بالأجهزة والبرامج الحديثة

(التنبيه الثالث): مع أن التصوير بالآلات الحديثة يحمل اسم (التصوير)، إلا أن حقيقته أقرب ما تكون لـ (الالتقاط)، فالمُصوّر بالآلة الحديثة يلتقط خلقَ الله (من إنسان وحيوان) على الهيئة التي خلقه اللهُ عليها، وليس في هذا الالتقاط ما يجعل في عمل المصوّر مشابهة ولا مماثلة لخلق الله تعالى، لذلك نجد من يُطلق عليها اسم: (لقطة) ولا يسمّيها (صورة)، مع أنها لو سُمّيت (صورة) لم يكن في هذه الاسم إشكال، إذ لا يمكن تحريم الشيء بالنظر لاسمه، وقد سبق بيانه في (الوجه الأول)

(التنبيه الرابع): هناك نوع من أنواع التصوير، يكون بالآلات والوسائل الحديثة، إلا أن للمصور فيه جهدٌ وعمل، وهو الرسم عن طريق الأجهزة الحديثة وباستخدام برامج وتطبيقات الرسم وصنع الصور، وهذا النوع يختلف عن التصوير بآلات التصوير الحديثة (الكاميرات)، فالكاميرا تقوم بالتقاط الصورة الحقيقية للإنسان، على الهيئة التي خلقه الله عليها، والجهد المبذول هنا من المصور ليس أكثر من التقاط خلق الله، أما الجهد المبذول ممن يرسم صورة بالأجهزة الحديثة مُستخدماً برامج الرسم الحديثة فهو أشبه بالجهد الذي يبذله من يرسم بيده على الورقة مباشرة، ولأجل هذا ترددتُ في حكمه، وهو عندي أقرب ما يكون للحالة الأولى من حالات التصوير، وهو التصوير المحرم الذي يكون للمصور فيه جهد وعمل

(التنبيه الخامس): هناك برامج وتطبيقات تنتج صورا دون الحاجة لجهد وعمل من المستخدم، كتلك البرامج التي تقوم بتعديل صور حقيقية ملتقطة بالكاميرا الحديثة، أو البرامج التي تعمل على معالجة الصور بالذكاء الاصطناعي، بحيث يتم التعديل أو المعالجة بخطوات يسيرة، وربما بخطوة واحدة حتى، وهذا النوع من التصوير أو الرسم يتم بجهد غير مؤثر من المستخدم، فلا يمكن أن تنسب الصور فيه للمصور، ولعل هذا النوع أقرب للحالة الثانية من حالات التصوير، نظرا لتخلّف صفة التأثير في عمل المصور

* مسائل متفرقة
وعددها: ثلاث عشرة مسألة:

(المسألة الأولى): بيّن ابن حجر رحمه الله في كتابه فتح الباري أن (الصورة) تُطلق على المرسوم وتطلق على المُجسّم

(المسألة الثانية): لا يصح الاعتراض على التصوير بأن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صور.. وذلك أن الحديث جاء من رواية الصحابي أبي طلحة الأنصاري، وقد سمعه منه الصحابي زيد بن خالد الجهني، وسمعه من زيد اثنان من التابعين، هما: بُسر بن سعيد وعبيد الله الخولاني.. فمرض زيدٌ، فزاره التابعيان، فوجدا على باب بيته سِتْرا فيه صورة، فقال عبيد الله: ألم يُخبرنا عن الصور يومَ الأول؟ فقال بسر: ألم تسمعه حين قال "إلا رقما في ثوب"؟ فقال عبيد الله: لا، فقال بسر: بلى قد قال ذلك (انظر الحديث والقصة في البخاري ومسلم)

تتلخّص من القصة (ثلاثة أمور): 

(الأمر الأول): ليست كل الصور تمنع دخول الملائكة، لأن الصحابي روى الحديث ومع ذلك لم يعتبر كل صورة مانعة من دخول الملائكة

(الأمر الثاني): أن الصور المرسومة على الثوب أو القماش لا تمنع دخول الملائكة، وهو ما يعبّر عنه البعض بـ (الصور التي لا ظلّ لها)، بخلاف الصور البارزة التي لها ظلّ، والتي تكون مجسّمة أو منحوتة

(الأمر الثالث): أن هذا الذي فهمه الصحابي والتابعيان من حديث النبي صلى الله عليه وسلم

(المسألة الثالثة): لا يصح الاعتراض على وجود الصور: بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عائشة بإزالة الصور التي رآها في البيت.. وذلك أن السبب الذي لأجله أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإزالة الصور: أنها (أشغلته في الصلاة)، وهذا ما جاء صريحاً في حديث أنس (كما في صحيح البخاري)

(المسألة الرابعة): كيف يكون تعليق الصور التي لا ظلّ لها أمراً مباحاً، ويكون ﺻُﻨﻌﻬﺎ باليد أمراً محرماً؟ الجواب: لا إشكال في هذا؛ فقد يأثم من رسم أو صنع الصورة بيده، ولا يأثم من تحصّل عليها وعلّقها، فتلك مسألة وهذه مسألة أخرى، تماماً كما يأثم المرء إذا اكتسب المال من تجارة مُحرّمة، ولا يأثم أولاده حين يتحصّلون على هذا المال بعد موته عن طريق الإرث، لأن تحصيل على المال بطريقة محرّمة مسألة، بينما الحصول على المال بطريقة الإرث مسألة أخرى

(المسألة الخامسة): مسألة التصوير بالآلات الحديثة فيها خلاف بين العلماء المعاصرين، فلا ينبغي التعصب لأي قول من الأقوال، كما لا يترتّب على الاختلاف فيها عداوة

(المسألة السادسة): ممن رأى جواز التصوير بالآلات الحديثة الشيخُ ابن عثيمين رحمه الله، ومع أن للشيخ فتاوى كثيرة غير صريحة وتشعر بالتحريم؛ إلا أن له فتوى واضحة وصريحة بالجواز وبأن التحريم خاص بالصورة التي يكون للمُصوّر فيه عمل (انظر على سبيل المثال كتاب مجموع فتاوى ابن عثيمين)

(المسألة السابعة): ممن رأى تحريم التصوير بجميع أنواعه الشيخُ ابن باز رحمه الله والشيخُ صالح الفوزان حفظه الله

(المسألة الثامنة): إن كان التصوير لحاجة ومصلحة؛ فإن القائلين بالتحريم يجوّزونه، مثاله: الصور التي يُحتاج لها في البطاقة الشخصية

(المسألة التاسعة): مسألة حكم التصوير، تختلف عن مسألة حكم الغلو في الصور، كما تختلف عن مسألة تصوير مالا يجوز النظر إليه.. فيجب التنبّه لذلك وعدم الخلط بين هذه المسائل.. بمعنى أن من أجاز التصوير بالآلات الحديثة فلا يلزم منه قوله هذا أنه يجيز تعليق أو اقتناء الصور لمن يغلو فيها ويعظّمها أو يتوسّل بها أو ربما يعبدها، كما لا يلزم من قوله هذا أنه يجيز تصوير وعرض ما لا يجوز تصويره والنظر إليه

(المسألة العاشرة): الخلاف المذكور في التصوير؛ خاص بتصوير ذوات الأرواح (الإنسان والحيوان)، أما تصوير الجمادات (مثل: الجبال والأشجار) فليس بمحرم، سواء كان من النوع الذي للمصور فيه جهد وعمل أو من النوع الآخر الذي ليس للمصور فيه جهد ولا عمل، وسواء كان رسماً أو نحتاً باليد أو التقاطاً بالآلات الحديثة

(المسألة الحادية عشرة): من البراهين على أن المصور بالآلات الحديثة ليس له جهد وعمل في الصورة؛ أن الأعمى يستطيع التصوير والتسجيل بمجرد الضغط على المفتاح المخصص للالتقاط، وكذلك الصغير الذي لا يَعقِل

(المسألة الثانية عشرة): البحث في حكم التصوير لا علاقة لها بالهوى، ولا بضعف الإيمان، ولا بتتبّع الرخص، ولا بالأخذ بزلاّت العلماء؛ بل هو بحث قائم على متابعة الدليل، فلا يُقبل اتهام من أجاز هذا التصوير بشيء مما سبق، وكما أن المرء يُطالب بعدم تحليل شيء حرّمه الله ورسوله، فهو مطالب كذلك بعدم تحريم شيء أحلّه الله ورسوله أو لم يحرّمه الله ولا رسوله

(المسألة الثالثة عشرة): ليس الغرض من كتابة المقال الدعوة للتصوير والتوسع فيه، بل المراد توضيح المسألة حتى لا يُشنّع أحد على الآخر، فمن أخذ بالتحريم تقليداً لمن قال بالتحريم؛ فله ذلك، ومن أخذ بالجواز تقليداً لمن قال بالجواز؛ فله ذلك

هذا ما أردتُ قوله في المسألة، والله الموفق لكل خير

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق