وصفة أبي ذر للشغوفين بالرياسة


"ما أقلّت الغبراء (=الأرض) ولا أظلّت الخضراء (=السماء) من رجل أصدق لهجة من أبي ذر" أخرجه ابن ماجه وصححه الألباني

لئن أطاق الناسُ الجهاد بمعناه المعروف؛ فالقليل منهم من يطيق مجاهدة النفس، وأعظم هؤلاء من ينتصر على ذاته ويُخضعها لمراد الله ورسوله، تلك هي الرسالة الخالدة التي رسّخها أبو ذر في أمة محمد قبل أن يلقى ربه

وإليك التفاصيل .. 

كأي رجل يتطلّع لمعالي الأمور؛ تاقتْ نفسه رضي الله عنه للإمارة، وبما أنه صادق اللهجة لا يعرف الخداع فقد صارح النبيَّ صلى الله عليه وسلم بهذه الأمنية، ففي صحيح مسلم أنه قال: قلت يا رسول الله ألا تستعملني؟ فضرب بيده على منكبي ثم قال: "يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها

لم يقف الأمر عند هذا الحدّ بل كلفه النبي بأمر أشدّ من منعه من الإمارة، فقد أوصاه بأن يسمع ويطيع ولو لعبد حبشي! أخرجه مسلم

من الطبعي جداً ألاّ يُراجع أبو ذر النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعد هذا الحديث، وألاّ يُكرّر المطالبة، ولا حتى تلميحاً، لكن الأمر غير الطبعي، والذي لا يُقوى عليه إلا الكبار: أن يتغلّب على ذاته ويمحو هذه الأمنية من قائمة اهتماماته

فبقدرة الله تحوّل الرجل الراغب في الإمارة إلى رجل زاهد في الدنيا بأسرها، مدرسة في طاعة ولي الأمر، انظر للتاريخ المشرق وهو يحفظ له موقفاً يفوح منه شذى السنة ويتجلّى فيه صدقُ الاتّباع، فما أن ظهر الخوارج على عثمان حتى دخل أبو ذر على عثمان قائلاً بعفويته وصدق لهجته: أظننتَ أني منهم؟ لا والله ما أنا منهم ولا هم مني، والله لو أمرتني ان أحبو لحبوتُ، ثم استأذنه أن يغادر إلى الربذة (بين مكة والمدينة) فأذن له، فانصرف

وأعجب من هذا أن يأتيه بعض أهل الكوفة وهو متوجّه للربذة، فيعرضون عليه أن يَنصب لنفسه لواءً (شيء يشبه البيعة أو العهد) ليجتمع إليه الناسُ! .. أبا ذر، صاحبَ رسول الله، هاهي الفرصة تأتيك، وهاهي الإمارة تتطلّع لك بعد أن كنتَ تتطلّع لها، فما أنت فاعل؟

ثبت المدرسةُ أبو ذر ثبات الرجال، نهاهم، وقال: لا تعرضوا علي ذاكم، ولا تذلّوا السلطان، فإنه من أذلّ السلطان فلا توبة له، والله لو صلبني على أطول خشبة أو حبل لسمعتُ وصبرتُ ورأيتُ أن ذلك خير لي 

أراد الله بحكمته أن يتجدد الابتلاء مرة أخرى، هاهو الرجل الذي تطلّع للإمارة يوماً من الدهر؛ يدخل الربذة فيتفاجأ بعبد حبشي أميراً لعثمان في الربذة، ومن العجيب أن يكون دخوله في وقت صلاة، يهمّ الأميرُ أن يُقدّم أبا ذر ليصلي بالناس، يمتنع أبو ذر ويقول: إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع وإن كان عبداً مُجدّع الأطراف (الحديث أخرجه البخاري ومسلم)

وأعجب من هذا؛ أن تنتقل السنة من قلب أبي ذر ولسانه، فتتجلى واقعاً عملياً في مواقفه، قال أبو العالية: قلت لعبد الله بن الصامت: نُصلّي يوم الجمعة خلف أمراء؛ فيؤخرون الصلاة، فضرب فخذي ضربة أوجعتني وقال: سألتُ أبا ذر عن ذلك، فضرب فخذي وقال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "صلّوا الصلاة لوقتها، واجعلوا صلاتكم معهم نافلة"، قال أبو العالية: وقال عبدالله: ذُكر لي أن نبي الله صلى الله عليه وسلم ضرب فخذ أبي ذر (أخرجه مسلم) 

ويختم أبو ذر رضي الله عنه مسيرته في الربذة، فلا يرثيه إلا زوجته وابنه وخادمه، ودمعةٌ صادقة من عبدالله بن مسعود وهو يقول: صدق رسولُ الله يوم قال: "رحم اللهُ أبا ذر؛ يمشي وحده ويموت وحده ويبعث يوم القيامة وحده"

مات المدرسة ولم يذق طعم الرياسة؛ بل ما شمّ لها رائحة، لكنه أقبل على الله بقلب مؤمن، ولسان صادق، ونفس راضية، وتزكيات مباركة من النبي صلى الله عليه وسلم، مِن أعظمها أن شبّهه بأحد أنبياء الله عليهم السلام، "مَن سرّه أن ينظر إلى تواضع عيسى بن مريم؛ فلينظر إلى أبي ذر" (صححه الألباني)، وفي رواية "مَن سرّه أن ينظر إلى شبيه عيسى بن مريم خَلقاً وخُلقاً؛ فلينظر إلى أبي ذر"

يا من خالفتَ السنة، يا من قضيتَ عمرك سعياً للرياسة، يا من أشغلك اللهث وراء السياسة، اقرأ هذه المواقف العظيمة، وابكِ على نفسك بكاء من بعُد عن قول الجبار جل وعلا (وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون)، هداك الله للحق، وأنار بصيرتك بالإيمان، وأضاء حياتك بالسنة

هناك 15 تعليقًا:

  1. دمعت الاعين وحق لها ان تدمع
    جزاك الله خيرا
    مبارك المنصوري

    ردحذف
  2. هؤلاء هم اهل السلف .. ونعم الرجل ابي ذر ..
    ان القلب ليحزن وان العين لتدمع وانا على حالنا اليوم لباكين
    الله احسن خاتمتنا يا رب

    ردحذف
  3. ................

    ردحذف
  4. لا عطر بعد عروس ... حروف تسطر بماء الذهب، وكلمات مؤثرة، رائعة ..

    بارك الله فيكم يا شيخ بندر، ورفع قدركم، ونفع بعلمكم ...

    محبكم والداعي لكم محمد الحاجوني ...

    ردحذف
  5. خالد عسكر13‏/2‏/2012، 7:06 ص

    جزاك الله خيرا شيخ بندر وسأل الله العظيم ان لايفتنا في ديننا

    ردحذف
  6. واصل يابدر المحياني ولايهمك الجهال

    ردحذف
  7. بارك الله فيك أخي الكريم. اسأل الله أن ينفع بك
    صفحة حب الوطن الإسلامي من الإيمان www.fb.com/misr.egypt.12

    ردحذف
  8. سدد الله خطاكم
    قلّ من يتعظ في هذا الزمان أخ بندر نسأل الله العافية

    والله ان اصرارهم و استكبارهم يدمي قلوبنا
    ان سردنا النصوص اكملوا جدالهم و لم يتوقفوا
    صدق من دعا علي من لم يتعظ بالقرآن فلا اتعظ

    وهل تعلم ماحجتهم؟
    العريفي و نبيل والعوده و القرني
    تتأجج النار بقلوبهم و افواههم ان كشفنا زور و بهتان اولئك الدعاة
    وحينما نأتي بدليل لأكابر العلماء عن بعض هؤلاء الدعاة
    لم يستسلموا و لم يرضخوا للحق
    بل يقولوا ستكبرون و تنسون و انشغلوا بحفظ القران و تلاوته و لن يسألك الله عن هؤلاء الدعاة ولا عن اكابر العلماء

    واااعجباه ،كيف لن يسالني ...
    الكلام يطول

    الا ان اوصيك اخي المحياني بأن تثبت و لا تتبع الهوى
    اثبت ثبات أحد
    فقد تعلق اسمك بالسلفية ان لاسمح الله زغت كثرت الفتن علينا و اشرأبت الانفس

    اسأل الله
    ان يرينا الحق حقاً و يرزقنا اتباعه
    و يرينا الباطل باطلاً و يرزقنا اجتنابه

    ردحذف
  9. جزاك الله خيرا يا شيخ

    ردحذف
  10. شدني ماكتبت غفر الله لسلفنا وغفر لعلمائنا وتجاوز عنهم
    لا أبلغ من جزاك الله خير

    ردحذف
  11. غفر الله لك ولوالديك لقد أبكيتني يا شيخ بندر,فعلا كان رضي الله عنه أمة,واعتزاله في زمن الفتنة عين الصواب

    ردحذف
  12. جزاك الله خير و بارك الله فيك وثبتنا واياك والمسلمين على الصراط المستقيم
    كلمات فيها عبر... هل من متعظ... الله المستعان

    ردحذف
  13. بارك الله بك ونفع بك الإسلام والمسلمين

    ردحذف
  14. ما اكثر دعاتنا اليوم الذين اشغلوا الناس بالسياسة.
    مقال موفق ومؤثر.
    بارك الله فيك ياشيخ بندر.

    ردحذف