ثورةٌ عن بُعْد

لا يشك عاقل أننا نعيش عصر تنوّع الوسائل، بل تغيّر المفاهيم! حتى الثوابت؛ أصبح هناك ما يزاحمها.. حوار، ثقافة، معرفة، سعة أفق، تقبل الآخر، ... إلى آخر تلك (الشعارات) التي صُمّمت خصيصا لتعكير صفو المباديء ولإذابة المُسلّمات
 
في عصرنا المبْهِر.. أصبح التمسّك بالأصالة تحجّراً وتعصبا، والتقلّب في أودية العقل انفتاحاً ووعياً؛ ولو كان المرءُ لا يدري عن تقويم الأسنان هل هو هجري أم ميلادي؟

في عصرنا الجميل.. أصبح الإنجاب وتكثير النسل من النوافل! المكروهة!! بينما (الوايرلس) من الأساسيات التي يوصف من لا يملكها بالمسكين ويقال حال الإشارة إليه بالبنان: وين عايش؟

في عصرنا الرائع.. أصبحنا نتسوّق عن طريق الانترنت، ونصل أرحامنا إلكترونياً، ونستفتي الشيخ (قوقل)، ونتحاكم عند النزاع لمحركات البحث

في إحدى حالات الاسترخاء النادرة في حياتي؛ عادت بي الذاكرة لذلك الذي كان (يداوم) أمام الفاكس الساعات الطوال ليرسل ما كان يسمى وقتها بـ (فاكسات المسعري) والتي صدرت الفتاوى بتحريم تصويرها ونشرها

كما تذكّرتُ (الصحيّح) الآخر (الفقيه) حينما كان (يترزز) أمام برنامج المحادثة (البالتوك) ليعلن للعالم المكون من ثمانين (يوزر) خطته الذهبية لإنقاذ شعب الجزيرة العربية الذي لم يستنجد به أصلاً

ولا أنسى تلك الطائفة من الحجاج التي كانت تستخدم الأدوات الحادة في الترحيب بالناس بالطريقة التي يسِمُون بها جباههم حزنا على مَن قُتل بسببهم

إن مفهوم الثورة الآن تحوّل من الطريقة القديمة التي تعتمد على المواجهة، والتي تنتهي غالبا بـ (الإركاب) في سيارة جيب آخر موديل و (الإيداع) الفوري في فندق لا يُطلّ على شيء، إلى الطريقة الجديدة (الثورة عن بعد) أو (الثورة الإلكترونية)

فيما مضى.. ابتُلينا بقنوات تنشر السحر والكهانة، وتحت شعار (نُخرجك من ملة الإسلام على الهواء مباشرة وأنت في بيتك) ويتم ذلك بمجرّد اتصال (قصير) بالأستوديو ومخاطبة (كبير الجسم صغير العقل) وسؤاله عن أمور الغيب ومن ثَمّ تصديقه

نحن اليوم نعيش الواقع نفسه مع قضية أخرى من قضايانا، فقط اختلفت القضايا واتّحدت الوسائل

صار بمقدورك إعلان التمرّد والعصيان، وأنت في بيك وأمام شاشة جهازك تتناول كرواسون الجبن والزعتر

بإمكانك تسيير مظاهرة إلكترونية وتحريك مسيرة عن بعد والهتاف بشعارات الثورة وأنت ملتزم الصمت

تستطيع تعبئة الجماهير ونشر البغضاء والتحريض على الانفلات وأنت قابع (بكل براءة) في غرفتك المطلة على حديقة يرفرف فيها علم الوطن

ربما تساهم في خلق فجوة بين المواطن والقائد في الوقت الذي تحتفل فيه باليوم الوطني لبلادك وتقوم فيه بطلاء وجهك باللون الرسمي لوطنك

في ظلّ الثورة بمفهومها الجديد؛ يُتاح لك الجمع بين شخصيتين بينمها مسافة قصيرة جداً لا تتجاوز (فقط) ما بين المشرقين؛ شخصية عاشقة للوطن متفانية في خدمة البلد مخلصة للمليك، وشخصية تضرب من تحت الحزام!

هذا التوجه ظهر جليّا في فيديوهات النصائح (الرقيقة للغاية) والتغيريدات (العذبة جدا) التي يقوم ببثّها ونشرها بعض (مشاهير)  الفكر حول الوطن وهموم المواطن، والتي يكون لها بالغ الأثر في ترسيخ مبدأ الكراهية نحو الوطن وكل ما يمتّ للوطن بصلة

في نظري القاصر أحيانا (إلا هذه المرة!): يخطيء من يظنّ أن الضغوطات قد تُرغم صنّاع القرار! فإن أصغر شوارع أحياء مدينتك (على سبيل المثال) يشهد بأن المراهق في هذا العصر عنده الاستعداد أن يفقد أي شيء إلا أنه لا يتنازل على أطنان الكبرياء والعناد التي يحملها في قلبه! فما بالك بالرجل الكبير؟ بل ما بالك بالمسؤول؟ .. الإجبار والإكراه لغتان لا أحد يحبهما ولا يستجيب لهما، والواقع خير شاهد

بقي أن أوجه كلمة للشباب الذين أنا أحدهم! فأقول: 

يشهد الله أنني لا أفرح بالمشكلات؛ لكننا أمام أمر أكبر من ذلك كله، نحن أمام نعم حبانا الله إياها؛ يحسدنا عليها القاصي والداني، والمرجو منّا أن نعرض مطالبنا بطريقة لا تخرق المجتمع ولا تتعارض مع مبدأ المحافظة على النعم، تلك النعم التي لو لم نؤدّ شكرها (لله) تعالى أولاً ثم (للمتسبب) فيها ثانياً فإنا والله نخشى زوالها، وهذا مصداق ما في الكتاب العزيز

* رسائل مباشرة: 
انتقاد الأسلوب لا يعني عدم الاكتراث بالمشكلة
الحرص على الطاعة مبدأ شرعي أصيل وليس مبالغة ولا مداهنة
التغافل عن نعم الله أول مداخل الشيطان في صرف الناس عن الشكر

* ومما جاء في المعين الصافي: 

قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يُكلّمهم الله، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم؛ ... ورجل بايع رجلا لا يبايعه إلا للدنيا فإن أعطاه ما يريد وفى له وإلا لم يف له) رواه البخاري ومسلم

وقال حذيفة رضي الله عنه: (والله! ما فارق رجل الجماعة شبراً، إلا فارق الجماعة)

وقال عبد الله بن عكيم رضي الله عنه: (لا أُعين على قتل خليفة بعد عثمان) قيل له: وهل أعنت على قتله؟ قال: (إني أعدّ ذكر مساوئه من الإعانة على قتله)

أسأل الله أن يوفقنا لحسن المطالبة ونحن أهل لذلك، ويوفق حكامنا لحسن الأداء وهم أهل لذلك
 

هناك 11 تعليقًا:

  1. بارك الله فيك وفي "لوحة مفاتيحك" :)

    مقال ماتع وممتع ومفيد. استأنست بقراءته :)

    ردحذف
  2. جزاك الله خيرا وأمتعك بنعمه كما أمتعتنا بهذا المقال والذي أزال بعض الصديد الذي في القلب

    ردحذف
  3. جزاك الله خير ،أعجبني المقال، اسأل الله لك الإخلاص وأرجو أن لاتكون ممن يسجل بأسماء متعددة على تويتر ليمدح نفسه!!

    ردحذف
    الردود
    1. وهل قال لك أحد يارجل أن الشيخ يسجل بأـسماء متعددة ويمدح نفسه عن طريقها !!!
      اختاروا كلامكم قبل كتابته بارك الله فيكم
      -------------
      جزاك الله خيرا شيخ بندر مقال أكثر من رااااائع

      حذف
  4. مقال جميل وفقك الله...

    ردحذف
  5. جزاك الله خير كلام جميل ...أوفقك 100% ...سبق ان ناقشت هذا الموضوع نعم نريد اصلاحات ولكن ليس عن طريق الخونة والحاقدين بل بأيدي مخلصين محبين للوطن ..والا نعطى مجال للمتصيدين في الماء العكر...شكرا

    ردحذف
  6. هذا ما كنت اتمنى ان اقرأه

    سلمت اناملك

    ردحذف
  7. سلّم الله يمينك
    ابتسامة مسبقة؛ وأنا أقرأ الكلام تذكرت شيئين:
    الأول: صوتك، والذي يتردد في أذني كلما قرأت كلامك ، فسبحان من جعله هكذا مستقراً
    الثاني:
    كلمتك في بداية المقال (لا تقرأ هذا المقال أثناء النوم ...) فلم أجد علاقة بين المقال وبين هذه الكلمة ، ولكن من يعرف "بندراً" يزول عجبه (ابتسامه) إذ من يعرفه جيداً يعرف أنه دوماً يستخدم أساليب التشويق للقراءة ، وما أرى هذا إلا هو

    بارك الله فيك ياالحبيب ، وواله أحبك في الله

    ردحذف
  8. جزاك الله خيرا وجعله في ميزان حسناتك أخي الحبيب بندر

    ردحذف
  9. ما كتبته هو عين الصواب الحمد لله نعيش في رغد من العيش والامان ولكن هناك من ليس كذلك ونحن مجتمع مسلم نبكي لحال اخواننا ونتمنى لهم الخير
    وحكومتنا الرشيدة نعلم مدى حبها وتفانيها لشعبها ولا يوجد شيء كامل وننتظر الكمال منها اما الخروج وما يحدث في الدول المجاورة لا نريده فلكل شيء نواقص ولابد ان يأتي يوم فتسد هذه النواقص ونصل الى الكمال والكمال لله
    بارك الله فيك
    وحفظ الله بلادنا من كل مكروه ونسأل الله ان يمد حكومتنا بما هو خير لنا ولهم

    ردحذف